ما إن انتهى عرض المسرحية المنودرامية “سوناتا الربيع” تاليف جمال آدم وإخراج ماهر صليبي وتمثيل مازن الناطور لفرقة السمت السورية، التي عرضت، مساء أمس الأول، على هامش مهرجان أيام الشارقة المسرحية، حتى وقف الجمهور الكبير الذي ملأ الصالة الثانية في معهد الفنون المسرحية في الشارقة، من نقاد وإعلاميين، وعشاق مسرح، معبراً عن تفاعله مع هذه المسرحية الاستثنائية حقاً، وذلك على أصداء التصفيق الشديد للعرض المائز الذي تفاعل معه، على امتداد نحو الساعة .
لعل سر هذا التفاعل مع العرض جاء لأن المسرحية وضعت الأصبع على أحد العناوين العريضة في “الربيع العربي”، من خلال التركيز على تداعيات واستذكارات دكتور جامعي لوصية أبيه في أن يرفض الذل، بيد أن الشريط الدرامي يكشف عن واقع جد أليم في ظل الطغيان والاضطهاد والفساد، والقمع .
يدخل الجمهور الصالة، ليكون وجهاً لوجه أمام خشبة مسرح، ستارته مفتوحة على ديكور بسيط، بيت آيل للهدم، وعدة للدهان، وإبريق للشاي . . إلخ، حيث يحاول الممثل الناطور إصلاح الشرخ في الجدار، وهو يعد الشاي ويحتسيه، وينفث دخان سيجارته، ليستمع إلى عدد من الأغنيات لكبار الفنانين العرب عن دمشق، عن طريق جهاز الترانسستور، حيث يشير إلى أن الكثير من الغزاة حاولوا أن ينالوا من هذه المدينة الأقدم، بيد أنهم جميعاً اندحروا . كما يشير إلى الحضارات العظمى التي انطلقت من هذا المكان، مؤكداً أن هذا البلد يبقى لأهله .
وكلما حاول الدهان، أو الدكتور عصام، كما سنكتشف، أن يعالج الشرخ الموجود في الجدار، عبر رأبه بالمعجون، يفشل في كل مرة، ليعلن يأسه من إصلاح هذا البناء، كي يستطرد ويتحدث عن شخصيات كثيرة، مقربة منه: جاره أبو صالح، مدير المدرسة المتقاعد الذي يعمل سائق تاكسي، الذي يموت بعد تعرضه لنوبة قلبية، شأن ابن عمه فايز الذي كان يعمل في وزارة الصحة، ويتقيد بكل نصائح الأطباء، إلا أنه قضى قهراً .
هذه الحوادث التي يشير إليها، يتم شرحها، عبرحادثة شخصية جرت له، مفادها أن أباه كان يحلم أن يدرس الطب، في الخارج، بيد أنه لايحقق أمنية أبيه، حيث يدرس التاريخ، ويعود حاصلاً على شهادة الدكتوراة في التاريخ، ليعين مدرساً في قسم التاريخ، بكلية الآداب، إلا أن رسوب إحدى طالباته، وهي ابنة “المعلم”- وهو مصطلح سوري عن المسؤول الرفيع- ينكد عليه حياته، حيث يتعرض لسياسة التهديد والترغيب من قبل أجهزة السلطة، في أن يمنح هذه الطالبة الدرجات التي تؤهلها للنجاح، إلا أنه لا يذعن لذلك، لأن أباه أوصاه بألا يقبل الذل، كما أن أباه هذا يتعرض للتحقيق من قبل تلك الأجهزة المختصة، لمدة ثماني ساعات، ليموت بعد ذلك مقهوراً من شدة الإهانات البشعة التي تعرض لها، كما أن مصيره لن يكون بأفضل حال من مصير أبيه، عندما يضرب في “الحرم الجامعي” من قبل اتباع المعلم، ويساق إلى إحدى أجهزة الأمن، فيتعرض للتعذيب الشديد، إلا أنه لا يذعن، ويقبل الموت على بيع قيمه، ومبادئه، بالرغم من إغراءات ترقيته حتى ليكون وزيراً، كي يسرح من عمله، ويعاني ضنك العيش والفقر .
استفاد العرض من تقنيات بسيطة، من بينها مبدأ عرض بعض اللقطات، اعتماداً على تقنية الفيديو، إذ تعرض صور لزوجته، وابنته سوناتا، اللتين تعيشان في فرنسا، بعيداً عنه، ليسكن وحيداً في هذه الغرفة الصغيرة المستعصية على الإصلاح، بل إنه بات يشير إلى أن الإصلاح عبارة عن مجرد أكذوبة فاشلة، لايمكن له أن يعالج هذا البناء المتصدع، لذلك، فإنه يركل جدرانه، كي تتهاوى، من أجل إعادة بنائه، بينما تظل عبارة مكتوبة بالأحمر هي “خبر عاجل” من دون تبيان مضمون الخبر، لحض النظارة، على تأويل النبأ الذي يظهر في لحظة تهدم هذا البناء، بعيداً عن المباشرة السياسية التي طغت على النص، بيد أن طزاجة أحداث الربيع العربي، الذي اعتبر العرض امتداداً له، جعل النظارة يبدون وكأنهم أمام مجريات واقعية، هي صورة طبق الأصل عن الواقع الدامي الذي تمر به الثورة المتناولة، في لحظتها الراهنة، ليكون العرض قصيدة حقيقية، تحاكي الواقع، أو تنبض به، بكل شراسته، وألمه، وآفاقه المفتوحة .
واستطاعت الإضاءة البسيطة، أن تخدم العرض، وفق إيقاعات الأحداث التي تتم، بل لتجعل النظارة أمام زمن حقيقي معاش، ضمن ثالوث المسرح المتماهي كنص وتمثيل وإخراج، لتحقق المتعة الفنية المتوخاة، وإن كانت هذه المتعة مغموسة في الألم .